فصل: سورة الضحى:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



.سورة الليل:

.تفسير الآيات (1- 21):

{وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآَخِرَةَ وَالْأُولَى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)}
في إطار من مشاهد الكون وطبيعة الإنسان تقرر السورة حقيقة العمل والجزاء. ولما كانت هذه الحقيقة منوعة المظاهر: {إن سعيكم لشتى فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى}.. وكانت العاقبة كذلك في الآخرة مختلفة وفق العمل والوجهة: {فأنذرتكم ناراً تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى..}.
لما كانت مظاهر هذه الحقيقة ذات لونين، وذات اتجاهين.. كذلك كان الإطار المختار لها في مطلع السورة ذا لونين في الكون وفي النفس سواء: {والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى}.. {وما خلق الذكر والأنثى}.. وهذا من بدائع التناسق في التعبير القرآني.
{والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى وما خلق الذكر والأنثى}..
يقسم الله سبحانه بهاتين الآيتين: الليل والنهار. مع صفة كل منهما الصفة المصورة للمشهد. {والليل إذا يغشى}.. {والنهار إذا تجلى}.. الليل حين يغشى البسيطة، ويغمرها ويخفيها. والنهار حين يتجلى ويظهر، فيظهر في تجلية كل شيء ويسفر. وهما آنان متقابلان في دورة الفلك، ومتقابلان في الصورة، ومتقابلان في الخصائص، ومتقابلان في الآثار.. كذلك يقسم بخلقه الأنواع جنسين متقابلين: {وما خلق الذكر والأنثى}.. تكملة لظواهر التقابل في جو السورة وحقائقها جميعاً.
والليل والنهار ظاهرتان شاملتان لهما دلالة توحيان بها إيحاء للقلب البشري؛ ولهما دلالة كذلك أخرى عند التدبر والتفكر فيهما وفيما وراءهما. والنفس تتأثر تأثراً تلقائياً بتقلب الليل والنهار. الليل إذا يغشى ويعم، والنهار إذا تجلى وأسفر. ولهذا التقلب حديث وإيحاء. حديث عن هذا الكون المجهول الأسرار، وعن هذه الظواهر التي لا يملك البشر من أمرها شيئاً. وإيحاء بما وراء هذا التقلب من قدرة تدير الآونة في الكون كما تدار العجلة اليسيرة! وبما هنالك من تغير وتحول لا يثبت أبداً على حال.
ودلالتهما عند التدبر والتفكر قاطعة في أن هنالك يداً أخرى تدير هذا الفلك، وتبدل الليل والنهار. بهذا الانتظام وهذا الاطراد وهذه الدقة. وأن الذي يدير الفلك هكذا يدير حياة البشر أيضاً. ولا يتركهم سدى، كما أنه لا يخلقهم عبثاً.
ومهما حاول المنكرون والمضلون أن يلغوا في هذه الحقيقة، وأن يحولوا الأنظار عنها، فإن القلب البشري سيظل موصولاً بهذا الكون، يتلقى إيقاعاته، وينظر تقلباته، ويدرك تلقائياً كما يدرك بعد التدبر والتفكر، أن هنالك مدبراً لا محيد من الشعور به، والاعتراف بوجوده من وراء اللغو والهذر، ومن وراء الجحود والنكران!
وكذلك خلقة الذكر والأنثى.. إنها في الإنسان والثدييات الحيوانية نطفة تستقر في رحم. وخلية تتحد ببويضة. ففيم هذا الاختلاف في نهاية المطاف؟ ما الذي يقول لهذه: كوني ذكراً، ويقول لهذه: كوني أنثى؟.
إن كشف العوامل التي تجعل هذه النطفة تصبح ذكراً، وهذه تصبح أنثى لا يغير من واقع الأمر شيئاً.. فإنه لماذا تتوفر هذه العوامل هنا وهذه العوامل هناك؟ وكيف يتفق أن تكون صيرورة هذه ذكراً، وصيرورة هذه أنثى هو الحدث الذي يتناسق مع خط سير الحياة كلها، ويكفل امتدادها بالتناسل مرة أخرى؟
مصادفة؟! إن للمصادفة كذلك قانوناً يستحيل معه أن تتوافر هذه الموافقات كلها من قبيل المصادفة.. فلا يبقى إلا أن هنالك مدبراً يخلق الذكر والأنثى لحكمة مرسومة وغاية معلومة. فلا مجال للمصادفة، ولا مكان للتلقائية في نظام هذا الوجود أصلاً.
والذكر والأنثى شاملان بعد ذلك للأنواع كلها غير الثدييات. فهي مطردة في سائر الأحياء ومنها النبات.. قاعدة واحدة في الخلق لا تتخلف. لا يتفرد ولا يتوحد إلا الخالق سبحانه الذي ليس كمثله شيء..
هذه بعض إيحاءات تلك المشاهد الكونية، وهذه الحقيقة الإنسانية التي يقسم الله سبحانه بها، لعظيم دلالتها وعميق إيقاعها. والتي يجعلها السياق القرآني إطاراً لحقيقة العمل والجزاء في الحياة الدنيا وفي الحياة الأخرى..
يقسم الله بهذه الظواهر والحقائق المتقابلة في الكون وفي الناس، على أن سعي الناس مختلف وطرقهم مختلفة، ومن ثم فجزاؤهم مختلف كذلك؛ فليس الخير كالشر، وليس الهدى كالضلال. وليس الصلاح كالفساد، وليس من أعطى واتقى كمن بخل واستغنى، وليس من صدق وآمن كمن كذب وتولى. وأن لكل طريقاً، ولكل مصيراً، ولكل جزاء وفاقاً:
{إن سعيكم لشتى فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى وما يغني عنه ماله إذا تردى}..
إن سعيكم لشتى.. مختلف في حقيقته. مختلف في بواعثه. مختلف في اتجاهه. مختلف في نتائجه.. والناس في هذه الأرض تختلف طبائعهم، وتختلف مشاربهم، وتختلف تصوراتهم، وتختلف اهمتاماتهم، حتى لكأن كل واحد منهم عالم خاص يعيش في كوكب خاص.
هذه حقيقة. ولكن هناك حقيقة أخرى. حقيقة إجمالية تضم أشتات البشر جميعاً. وتضم هذه العوامل المتباينة كلها. تضمها في حزمتين اثنتين. وفي صفين متقابلين. تحت رايتين عامتين: {من أعطى واتقى وصدق بالحسنى}.. و{من بخل واستغنى وكذب بالحسنى}..
من أعطى نفسه وماله. واتقى غضب الله وعذابه. وصدق بهذه العقيدة التي إذا قيل {الحسنى} كانت اسماً لها وعلماً عليها.
ومن بخل بنفسه وماله. واستغنى عن الله وهداه. وكذب بهذه الحسنى..
هذان هما الصفان اللذان يلتقي فيهما شتات النفوس، وشتات السعي، وشتات المناهج، وشتات الغايات. ولكل منهما في هذه الحياة طريق.. ولكل منهما في طريقه توفيق!
{فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى}..
والذي يعطي ويتقي ويصدق بالحسنى يكون قد بذل أقصى ما في وسعه ليزكي نفسه ويهديها. عندئذ يستحق عون الله وتوفيقه الذي أوجبه سبحانه على نفسه بإرادته ومشيئته.
والذي بدونه لا يكون شيء، ولا يقدر الإنسان على شيء.
ومن يسره الله لليسرى فقد وصل.. وصل في سر وفي رفق وفي هوادة.. وصل وهو بعد في هذه الأرض. وعاش في يسر. يفيض اليسر من نفسه على كل ما حوله وعلى كل من حوله. اليسر في خطوه. واليسر في طريقه. واليسر في تناوله للأمور كلها. والتوفيق الهادئ المطمئن في كلياتها وجزئياتها. وهي درجة تتضمن كل شيء في طياتها. حيث تسلك صاحبها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في وعد ربه له: {ونيسرك لليسرى}..
{وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى وما يغني عنه ماله إذا تردى}..
والذي يبخل بنفسه وماله، ويستغني عن ربه وهداه، ويكذب بدعوته ودينه.. يبلغ أقصى ما يبلغه إنسان بنفسه من تعريضها للفساد. ويستحق أن يعسر الله عليه كل شيء، فييسره للعسرى! ويوفقه إلى كل وعورة! ويحرمه كل تيسير! ويجعل في كل خطوة من خطاه مشقة وحرجاً، ينحرف به عن طريق الرشاد. ويصعد به في طريق الشقاوة. وإن حسب أنه سائر في طريق الفلاح. وإنما هو يعثر فيتقي العثار بعثرة أخرى تبعده عن طريق الله، وتنأى به عن رضاه.. فإذا تردى وسقط في نهاية العثرات والانحرافات لم يغن عنه ماله الذي بخل به، والذي استغنى به كذلك عن الله وهداه.. {وما يغني عنه ماله إذا تردى}.. والتيسير للشر والمعصية من التيسير للعسرى، وإن أفلح صاحبها في هذه الأرض ونجا.. وهل أعسر من جهنم؟ وإنها لهي العسرى!.
هكذا ينتهي المقطع الأول في السورة. وقد تبين طريقان ونهجان للجموع البشرية في كل زمان ومكان. وقد تبين أنهما حزبان ورايتان مهما تنوعت وتعددت الأشكال والألوان. وأن كل إنسان يفعل بنفسه ما يختار لها! فييسر الله له طريقه: إما إلى اليسرى وإما إلى العسرى.
فأما المقطع الثاني فيتحدث عن مصير كل فريق. ويكشف عن نهاية المطاف لمن يسره لليسرى، ومن يسره للعسرى. وقبل كل شيء يقرر أن ما يلاقيه كل فريق من عاقبة ومن جزاء هو عدل وحق، كما أنه واقع وحتم. فقد بين الله للناس الهدى، وأنذرهم ناراً تلظى:
{إن علينا للهدى وإن لنا للآخرة والأولى فأنذرتكم ناراً تلظى لا يصلاهآ إلا الأشقى الذي كذب وتولى وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى}..
لقد كتب الله على نفسه فضلاً منه بعباده ورحمة أن يبين الهدى لفطرة الناس ووعيهم. وأن يبينه لهم كذلك بالرسل والرسلات والآيات، فلا تكون هناك حجة لأحد، ولا يكون هناك ظلم لأحد: {إن علينا للهدى}..
واللمسة الثانية هي التقرير الجازم لحقيقة السيطرة التي تحيط بالناس، فلا يجدون من دونها موئلاً: {وإن لنا للآخرة والأولى}.
فأين يذهب من يريد أن يذهب عن الله بعيداً؟!
وتفريعاً على أن الله كتب على نفسه بيان الهدى للعباد، وأن له الآخرة والأولى داري الجزاء والعمل. تفريعاً على هذا يذكرهم أنه أنذرهم وحذرهم وبين لهم: {فأنذرتكم ناراً تلظى}.. وتتسعر.. هذه النار المتسعرة {لا يصلاها إلا الأشقى}.. أشقى العباد جميعاً. وهل بعد الصلي في النار شقوة؟ ثم يبين من هو الأشقى. إنه: {الذي كذب وتولى}.. كذب بالدعوة وتولى عنها. تولى عن الهدى وعن دعوة ربه له ليهديه كما وعد كل من يأتي إليه راغباً.
{وسيجنبها الأتقى}.. وهو الأسعد في مقابل الأشقى.. ثم يبين من هو الأتقى: {الذي يؤتي ماله يتزكى}.. الذي ينفق ماله ليتطهر بإنفاقه، لا ليرائي به ويستعلي. ينفقه تطوعاً لا رداً لجميل أحد، ولا طلباً لشكران أحد، وإنما ابتغاء وجه ربه خالصاً.. ربه الأعلى..
{وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى}..
ثم ماذا؟ ماذا ينتظر هذا الأتقى، الذي يؤتي ماله تطهراً، وابتغاء وجه ربه الأعلى؟ إن الجزاء الذي يطالع القرآن به الأرواح المؤمنة هنا عجيب. ومفاجئ. وعلى غير المألوف.
{ولسوف يرضى}.
إنه الرضى ينسكب في قلب هذا الأتقى. إنه الرضى يغمر روحه. إنه الرضى يفيض على جوارحه. إنه الرضى يشيع في كيانه. إنه الرضى يندي حياته..
ويا له من جزاء! ويا لها من نعمة كبرى!
{ولسوف يرضى}.. يرضى بدينه. ويرضى بربه. ويرضى بقدره. ويرضى بنصيبه. ويرضى بما يجد من سراء وضراء. ومن غنى وفقر. ومن يسر وعسر. ومن رخاء وشدة. يرضى فلا يقلق ولا يضيق ولا يستعجل ولا يستثقل العبء، ولا يستبعد الغاية.. إن هذا الرضى جزاء جزاء أكبر من كل جزاء جزاء يستحقه من يبذل له نفسه وماله من يعطي ليتزكى. ومن يبذل ابتغاء وجه ربه الأعلى.
إنه جزاء لا يمنحه إلا الله. وهو يسكبه في القلوب التي تخلص له، فلا ترى سواه أحداً.
{ولسوف يرضى}..
يرضى وقد بذل الثمن. وقد أعطى ما أعطى..
إنها مفاجأة في موضعها هذا. ولكنها المفاجأة المرتقبة لمن يبلغ ما بلغه الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى، وما لأحد عنده من نعمة تجزى، إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى..
{ولسوف يرضى}..

.سورة الضحى:

.تفسير الآيات (1- 11):

{وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)}
هذه السورة بموضوعها، وتعبيرها، ومشاهدها، وظلالها وإيقاعها، لسمة من حنان، ونسمة من رحمة. وطائف من ود. ويد حانية تمسح على الآلام والمواجع، وتنسم بالروْح والرضى والأمل. وتسكب البرد والطمأنينة واليقين.
إنها كلها خالصة للنبي صلى الله عليه وسلم كلها نجاء له من ربه، وتسرية وتسلية وترويح وتطمين. كلها أنسام من الرحمة وأنداء من الود، وألطاف من القربى، وهدهدة للروح المتعب، والخاطر المقلق، والقلب الموجوع.
ورد في روايات كثيرة أن الوحي فتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبطأ عليه جبريل عليه وسلم فقال المشركون: ودع محمداً ربه! فأنزل الله تعالى هذه السورة..
والوحي ولقاء جبريل والاتصال بالله، كانت هي زاد الرسول صلى الله عليه وسلم في مشقة الطريق. وسقياه في هجير الجحود. وروْحه في لأواء التكذيب. وكان صلى الله عليه وسلم يحيا بها في هذه الهاجرة المحرقة التي يعانيها في النفوس النافرة الشاردة العصية العنيدة. ويعانيها في المكر والكيد والأذى المصبوب على الدعوة، على الإيمان، وعلى الهدى من طغاة المشركين.